الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم
يروى أنه فشا الخبر بمصر أن آلَ فرعون أخذوا غلامًا من النيل لا يرتضع ثديَ امرأة واضطُروا إلى تتبّع النساء، فخرجت أختُه مريمُ لتعرِف خبرَه فجاءتهم متنكّرة فقالت ما قالت وقالوا ما قالوا، فجاءت بأمه فقبِل ثديَها، فالفاء قوله تعالى: {فرجعناك إلى أُمّكَ} فصيحةٌ معربةٌ عن محذوف قبلها يُعطَف عليه ما بعدها، أي فقالوا: دُلّينا عليها فجاءت بأمك فرجعناك إليها {كَى تَقَرَّ عَيْنُها} بلقائك {وَلاَ تَحْزَنْ} أي يطرأَ عليها الحزنُ بفراقك بعد ذلك، وإلا فزوالُ الحزن مقدمٌ على السرور المعبَّر عنه بقُرّة العين فإن التخليةَ متقدمةٌ على التحلية، وقيل: ولا تحزنَ أنت بفقد إشفاقها {وَقَتَلْتَ نَفْسًا} هي نفس القِبْطيّ الذي استغاثه الإسرائيليُّ عليه.{فنجيناك مِنَ الغم} أي غمِّ قْتلِه خوفًا من عقاب الله تعالى بالمغفرة ومن اقتصاص فرعونَ بالإنجاء منه بالمهاجَرة إلى مدين {وفتناك فُتُونًا} أي ابتليناك ابتلاءً أو فتونًا من الابتلاء على أنه جمعُ فتن، أو فتنة على ترك الاعتداء بالتاء كحُجوز في حجزة وبُدور في بَدْرة أي خلّصناك مرة بعد أخرى وهو إجمالُ ما ناله في سفره من الهجرة عن الوطن ومفارقةِ الأُلاّف والمشْي راجلًا وفقْدِ الزاد، وقد روي أن سعيدَ بنَ جبير سأل عنه ابنَ عباس رضي الله عنهما، فقال: خلّصناك من محنة بعد محنة ولد في عام كان يُقتل فيه الوِلْدانُ فهذه فتنةٌ يا ابنَ جبير، وألقتْه أمُّه في البحر وهمّ فرعونُ بقتله وقتلَ قِبْطيًا وآجَرَ نفسه عشر سنين وضلّ الطريقَ وتفرّقت غنمُه في ليلة مظلمة، وكان يقول عند كلِّ واحدةٍ: فهذه فتنةٌ يا ابنَ جبير. ولكن الذي يقتضيه النظمُ الكريم أن لا تُعدَّ إجارةُ نفسه وما بعدها من تلك الفُتون ضرورةَ أن المرادَ بها ما وقع قبل وصولِه عليه السلام إلى مدينَ بقضية الفاء في قوله تعالى: {فَلَبِثَ سِنِينَ في أَهْلِ مَدْيَنَ} إذ لا ريب في أن الإجارةَ المذكورة وما بعدها مما وقع بعد الوصولِ إليهم، وقد أشير بذكر لُبثه عليه السلام فيهم دون وصولِه إليهم إلى جميع ما قاساه عليه السلام في تضاعيف تلك السنينَ العشْر من فنون الشدائد والمكاره التى كلُّ واحد منها فتنةٌ وأيُّ فتنة.ومدينُ بلدةُ شعيبٍ عليه الصلاة والسلام على ثماني مراحلَ من مصرَ {ثُمَّ جِئْتَ} إلى المكان الذي أُونس فيه النارُ ووقع فيه النداءُ والجُؤار، وفي كلمة التراخي إيذانٌ بأن مجيئَه عليه السلام كان بعد اللتيا والتي من ضلال الطريق وتفرُّقِ الغنم في الليلة المظلمةِ الشاتية وغيرِ ذلك {على قَدَرٍ} أي تقديرٍ قدّرتُه لأن أكلّمَك وأستنبئَك في وقت قد عينته لذلك فما جئت إلا على ذلك القدَرِ غيرَ مستقدِمٍ ولا مستأخِر، وقيل: على مقدار من الزمان يوحى فيه إلى الأنبياء عليهم السلام وهو رأسُ أربعين سنةً وقوله تعالى: {ياموسى} تشريفٌ له عليه الصلاة والسلام وتنبيهٌ على انتهاء الحكايةِ التي هي تفصيلُ المرةِ الأخرى التي وقعت قبل المرة المحكيةِ أولًا.وقوله تعالى: {واصطنعتك لِنَفْسِى}.تذكيرٌ لقوله تعالى: {أَنَاْ اخترتك} وتمهيدٌ لإرساله عليه السلام إلى فرعون مؤيّدًا بأخيه حسبما استدعاه بعد تذكيرِ المِنن السابغةِ تأكيدًا لوثوقه عليه السلام بحصول نظائرِها اللاحقة، وهذا تمثيلٌ لما خوّله عز وعلا من الكرامة العظمى بتقريب الملِكِ بعضَ خواصّه واصطناعِه لنفسه وترشيحِه لبعض أمورِه الجليلة، والعدولُ عن نون العظمة الواقعة في قوله تعالى: {وفتناك} ونظيرَيه السابقين تمهيدٌ لإفراد لفظِ النفسِ اللائقِ بالمقام فإنه أدخلُ في تحقيق معنى الاصطناعِ والاستخلاص، أي اصطفيتُك برسالاتي وبكلامي. اهـ.
.قال الألوسي: {إِذْ تَمْشِى أُخْتُكَ}.ظرف لتصنع كما قال الحوفي وغيره على أن المراد به وقت وقع فيه مشي الأخت وما ترتب عليه من القول والرجع إلى أمها وتربيتها له بالحنو وهو المصداق لقوله تعالى: {وَلِتُصْنَعَ على عَيْنِى} [طه: 39] إذ لا شفقة أعظم من شفقة الأم وصنيعها على موجب مراعاته تعالى.وجوز أن يكون ظرفًا لألقيت وأن يكون بدلًا من {إِذْ أَوْحَيْنَا} [طه: 38] على أن المراد بها وقت متسع فيتحد الظرفان وتصح البدلية ولا يكون من إبدال أحد المتغايرين الذي لا يقع في فصيح الكلام.ورجح هذا صاحب الكشف فقال: هو الأوفق لمقام الامتنان لما فيه من تعداد المنة على وجه أبلغ ولما في تخصيص الإلقاء أو التربية بزمان مشى الأخت من العدول إلى الظاهر فقبله كان عليه السلام محبوبًا محفوظًا، ثم أولى الوجهين جعله ظرفًا {لتصنع} وأما النصب بإضمار اذكر فضعيف اهـ.وأنت تعلم أن الظاهر كونه ظرفًا لتصنع والتقييد بعلى عيني يسقط التربية قبل في غير حجر الأم عن العين.واعترض أبو حيان وجه البدلية بأن كلًا من الظرفين ضيق ليس بمتسع بتخصيصه بما أضيف إليه وليس ذلك كالسنة في الامتداد وفيه تأمل، واسم أخته عليه السلام مريم، وقيل: كلثوم وصيغة المضارع لحكاية الحال الماضية، وكذا يقال في قوله تعالى: {أُخْتُكَ فَتَقُولُ هَلْ أَدُلُّكُمْ على مَن يَكْفُلُهُ} أي يضمه إلى نفسه ويربيه.{فرجعناك إلى أُمّكَ} الفاء فصيحة أي فقالوا: دلينا على ذلك فجاءت بأمك فرجعناك إليها {كَى تَقَرَّ عَيْنُها} بلقائك.وقرئ {تَقَرَّ} بكسر القاف.وقرأ جناح بن حبيش {تَقَرَّ} بالبناء للمفعول {وَلاَ تَحْزَنْ} أي لا يطرأ عليها الحزن بفراقك بعد ذلك وإلا فزوال الحزن مقدم على السرور المعبر عنه بقرة العين فإن التخلية مقدمة على التحلية.وقيل: الضمير المستتر في {تخزن} لموسى عليه السلام أي ولا تحزن أنت بفقد إشفاقها، وهذا وإن لم يأبه النظم الكريم إلا أن حزن الطفل غير ظاهر، وما في سورة القصص يقتضي الأول والقرآن يفسر بعضه بعضًا.أخرج جماعة من خبر طويل عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أن آسية حين أخرجت موسى عليه السلام من التابوت واستوهبته من فرعون فوهبه لها أرسلت إلى من حولها من كل امرأة لها لبن لتختار لها ظئرًا فلم يقبل قدي واحدة منهن حتى أشفقت أن يمتنع من اللبن فيموت فأحزنها ذلك فأمرت به فأخرج إلى السوق مجمع الناس ترجو أن تجد له ظئرًا يأخذ ثديها فلم يفعل وأصبحت أمه وآلهة فقالت لأخته: قصي أثره واطلبيه هل تسمعين له ذكرًا أحي ابني أم قد أكلته الدواب؟ ونسيت الذي كان وعدها الله تعالى فبصرت به عن جنب فقالت من الفرح: أنا أدلكم على أهل بيت يكلفونه لكم وهم له ناصحون فأخذوها فقالوا: وما يدريك ما نصحهم له هل يعرفونه؟ وشكوا في ذلك فقالت: نصحهم له وشفقتهم عليه لرغبتهم في رضا الملك والتقرب إليه فتركوها وسألوها الدلالة فانطلقت إلى أمه فأخبرتها الخبر فجاءت فلما وضعته في حجرها نزا إلى ثديها فمصه حتى امتلأ جنباه ريًا وانطلق البشرى إلى امرأة فرعون يبشرونها إنا قد وجدنا لابنك ظئرًا فأرسلت إليها فأتيت بها وبه فلما رأيت ما يصنع بها قالت لها: امكثي عندي ارضعي ابني هذا فإني لم أحب حبه شيئًا قط قالت: لا أستطيع أن أدع بيتي وولدي فيضيع فإن طابت نفسك أن تعطينيه فاذهب به إلى بيتي فيكون معي لا آلوه خيرًا فعلت وإلا فإني غير تاركة بيتي وولدي فذكرت أم موسى ما كان الله عز وجل وعدها فتعاسرت على امرأة فرعون لذلك وأيقنت أن الله عز وجل منجز وعده فرجعت بابنها إلى بيتها من يومها فانبته الله تعالى نباتًا حسنًا وحفظه لما قد قضى فيه فلما ترعرع قالت امرأة فرعون لأمه: أريني ابني فوعدتها يومًا تزورها به فيه فقالت لخزانها وقهارمتها: لا يبق منكم أحد إلا استقبل ابني بهدية وكرامة أرى ذلك فيه وأنا باعثة أمينًا يحصى ما صنع كل إنسان منكم فلم تزل الهدايا والنحل والكرامة تستقبله من حين خرج من بيت أمه إلى أن دخل عليها فلما دخل أكرمته ونحلته وفرحت به ونحلت أمه لحسن أثرها عليه ثم انطلقت به إلى فرعون لينحله وليكرمه فكان ما تقدم من جذب لحيته، ومن هذا الخبر يعلم أن المراد إذ تمشي أختك في الطريق لطلبك وتحقيق أمرك فتقول: لمن أنت بأيديهم يطلبون لك ظئرًا ترضعك هل أدلكم إلخ.وفي رواية أنه لما أخذ من التابوت فشا الخبر بأن آل فرعون وجدوا غلامًا في النيل لا يرتضع ثدي امرأة واضطروا إلى تتبع النساء فخرجت أخته لتعرف خبره فجاءتهم متنكرة فقالت ما قالت وقالوا ما قالوا، فالمراد على هذا إذ تمشي أختك إلى بيت فرعون فتقول لفرعون وآسية أو لآسية {فَقَالَتْ هَلْ أَدُلُّكُمْ} إلخ.{وَقَتَلْتَ نَفْسًا} هي نفس القبطي واسمه قانون الذي استغاثه عليه الإسرائيلي واسمه موسى بن ظفر وهو السامري، وكان سنه عليه السلام حين قتل على ما في البحر اثنتي عشرة سنة، وفي الخبر عن الحبر ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أنه عليه السلام حين قتل القبطي كان من الرجال وكان قتله إياه بالوكز كما يدل عليه قوله تعالى: {فَوَكَزَهُ موسى فقضى عَلَيْهِ} [القصص: 15] وكان المراد وقتلت نفسًا فأصابك غم {فنجيناك مِنَ الغم} وهو الغم الناشيء من القتل وقد حصل له من وجهين خوف عقاب الله تعالى حيث لم يقع القتل بأمره سبحانه وخوف اقتصاص فرعون وقد نجاه الله تعالى من ذلك بالمغفرة حين قال: {رَبّ إِنّى ظَلَمْتُ نَفْسِى فاغفر لِى} [القصص: 16] وبالمهاجرة إلى مدين، وقيل: هو غم التابوت، وقيل: غم البحر وكلا القولين ليس بشيء، والغم في الأصل ستر الشيء ومنه الغمام لستره ضوء الشمس، ويقال: لما يغم القلب بسبب خوف أو فوات مقصود، وفرق بينه وبين الهم بأنه من أمر ماض والهم من أمر مستقبل، وظاهر كلام كثير عدم الفرق وشمول كل لما يكون من أمر ماض وأمر مستقبل {وفتناك فُتُونًا} أي ابتليناك ابتلاء على أن {فُتُونًا} مصدر على فعول في المتعدي كالثبور والشكور والكفور، والأكثر في هذا الوزن أن يكون مصدر اللازم أو فتونًا من الابتلاء على أنه جمع فتن كالظنون جمع ظن أو جمع فتنة على ترك الاعتداد بالتاء لأنها في حكم الانفصال كما قالوا في حجوز جمع حجزة وبدور جمع بدرة، ونظم الابتلاء في سلك المنن قيل: باعتبار أن المراد ابتليناك واختبرناك بإيقاعك في المحسن وتلخيصك منها، وقيل: إن المعنى أوقعناك في المحنة وهو ما يشق على الإنسان، ونظم ذلك في ذلك السلك باعتبار أنه موجب للثواب فيكون من قبيل النعم وليس بشيء، وقيل: إن {فتناك} بمعنى خلصناك من قولهم: فتنت الذهب بالنار إذا خلصته بها من الغش ولا يخفى حسنه، والمراد سواء اعتبر الفتون مصدرًا أو جمعًا خلصناك مرة بعد أخرى وهو ظاهر على اعتبار الجمعية، وأما على اعتبار المصدرية فلاقتضاء السياق ذلك، وهذا إجمال ما ناله عليه السلام في سفره من الهجرة عن الوطن ومفارقة الآلاف والمشي راجلًا وفقد الزاد.وقد روى جماعة أن سعيد بن جبير سأل ابن عباس عن الفتون فقال له: استأنف النهار يا ابن جبير فإن لها خبرًا طويلًا فلما أصبح غدا عليه فأخذ ابن عباس يذكر ذلك فذكر قصة فرعون وقتله أولاد بني إسرائيل ثم قصة إلقاء موسى عليه الصلاة والسلام في اليم والتقاط آل فرعون إياه وامتناعه من الارتضاع من الأجانب وإرجاعه إلى أمه ثم قصة أخذه بلحية فرعون وغضب فرعون من ذلك وإرادته قتله ووضع الجمرة والجوهرة بين يديه وأخذه الجمرة، ثم قصة قتله القبطي ثم هربه إلى مدين وصيرورته أجيرًا لشعيب عليه السلام ثم عوده إلى مصر وإخطاء الطريق في الليلة المظلمة وتفرق غنمه فيها وكان رضي الله تعالى عنه عند تمام كل واحدة يقول هذه من الفتون يا ابن جبير، ولكن قيل: الذي يقتضيه النظم الكريم أن لا يعد إجارة نفسه وما بعدها من تلك الفتون ضرورة أن المراد بها ما وقع قبل وصوله عليه السلام إلى مدين بقضية الفاء في قوله تعالى: {فُتُونًا فَلَبِثْتَ سِنِينَ في أَهْلِ مَدْيَنَ} إذ لا ريب في أن الإجارة المذكورة وما بعدها مما وقع بعد الوصول إليهم وقد أشير بذكر لبثه عليه السلام فيهم دون وصوله إليهم إلى جميع ما قاساه عليه السلام من فنون الفتون في تضاعيف مدة اللبث وهي فيما قيل عشر سنين، وقال وهب: ثمان وعشرون سنة أقام في عشر منها يرعى غنم شعيب عليه السلام مهرًا لابنته وفي ثماني عشرة مع زوجته وولد له فيها وهو الأوفق بكونه عليه السلام نبىء على رأس الأربعين إذا قلنا بأن سنه عليه السلام حين خرج إلى مدين اثنتا عشرة سنة، ومدين بلدة شعيب عليه السلام على ثمان مراحل من مصر.{ثُمَّ جِئْتَ} أي إلى المكان الذي ناديتك فيه، وفي كلمة التراخي إيذان بأن مجيئه عليه السلام كان بعد اللتيا والتي من ضلال الطريق وتفرق الغنم في الليلة المطلمة الشاتية وغير ذلك {على قَدَرٍ} أي تقدير والمراد به المقدر أي جئت على وفق الوقت الذي قدرته وعينته لتكليمك واستنبائك بلا تقدم ولا تأخر عنه، وقيل: هو بمعنى المقدار أي جئت على مقدار من الزمان يوحى فيه إلى الأنبياء عليهم السلام وهو رأس أربعين سنة.وضعف بأن المعروف في هذا المعنى القدر بالسكون لا التحريك، وقيل: المراد على موعد وعدناكه وروي ذلك عن مجاهد وهو يقتضي تقدم الوعد على لسان بعض الأنبياء عليهم السلام وهو كما ترى، وقوله تعالى: {حَدِيثُ موسى} تشريف له عليه السلام وتنبيه على انتهاء الحكاية التي هي تفصيل المرة الأخرى التي وقعت قبل المرة المحكية أولًا، وقوله سبحانه: {واصطنعتك لِنَفْسِى}.تذكير لقوله تعالى: {وَأَنَا اخترتك} [طه: 13] وتمهيد لإرساله عليه السلام إلى فرعون مؤيدًا بأخيه حسبما استدعاه بعد تذكير المنن السابقة تأكيدًا لوثوقه عليه السلام بحصول نظائرها اللاحقة، ونظم ذلك الإمام في سلك المنن المحكية وظاهر توسيط النداء يؤيد ما تقدم، والاصطناع افتعال من الصنع بمعنى الصنيعة وهي الإحسان فمعنى اصطنعه جعله محل صنيعته وإحسانه، وقال القفال: يقال اصطنع فلان فلانًا إذا أحسن إليه حتى يضاف إليه فيقال: هذا صنيع فلان وخريجه، ومعنى {لِنَفْسِى} ما روي عن ابن عباس لوحيي ورسالتي، وقيل: لمحبتي، وعبر عنها بالنفس لأنها أخص شيء بها، وقال الزجاج: المراد اخترتك لإقامة حجتي وجعلتك بيني وبين خلقي حتى صرت في التبليغ عني بالمنزلة التي أكون أنا بها لو خاطبتهم واحتجبت عليهم، وقال غير واحد من المحققين: هذا تمثيل لما خوله عز وجل من جعله نبيًا مكرمًا كليمًا منعمًا عليه بجلائل النعم بتقريب الملك من يراه أهلًا لأن يقرب فيصطنعه بالكرامة والأثرة ويجعله من خواص نفسه وندمائه، ولا يخفى حسن هذه الاستعارة وهي أوفق بكلامه تعالى وقوله تعالى: {لِنَفْسِى} عليها ظاهر.وحاصل المعنى جعلتك من خواصي واصطفيتك برسالتي وبكلامي، وفي العدول عن نون العظمة الواقعة في قوله سبحانه: {وفتناك} [طه: 40] ونظيريه السابقين تمهيد لإفراد النفس اللائق بالمقام فإنه أدخل في تحقيق معنى الاصطناع والاستخلاص. اهـ..قال القاسمي: {إِذْ تَمْشِي أُخْتُكَ فَتَقُولُ هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى مَنْ يَكْفُلُهُ}.أي: يضمن حضانته ورضاعته.فقبلوا قولها. وذلك لأنه لما استقر عند آل فرعون، عرضوا عليه المراضع فأباها كما قال تعالى: {وَحَرَّمْنَا عَلَيْهِ الْمَرَاضِعَ} [القصص: 12]، فجاءت أخته فقالت: {هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى أَهْلِ بَيْتٍ يَكْفُلُونَهُ لَكُمْ وَهُمْ لَهُ نَاصِحُونَ} [القصص: 12]، فجاءت بأمه كما قال: {فَرَجَعْنَاكَ إِلَى أُمِّكَ} أي: مع كونك بيد العدوّ: {كَيْ تَقَرَّ عَيْنُهَا} أي: برؤيتك: {وَلا تَحْزَنَ} أي: بفراقك. فهذه منن زائدة على النجاة من القتل.ثم أشار إلى ما منّ عليه بالنجاة من القتل الذي لا يدفع بتلبيس، بقوله: {وَقَتَلْتَ نَفْسًا} أي: من آل فرعون، وهو القبطيّ الذي استغاثه عليه الإسرائيليّ، إذ وكزه موسى فقضى عليه. أي: فاغتممت للقصاص: {فَنَجَّيْنَاكَ مِنَ الْغَمِّ} أي: غم القتل بأن صرفنا عنك ما تخشاه. وذلك أنه عليه السلام فرَّ من آل فرعون حتى ورد ماء مدين. وقال له ذلك الرجل الصالح: {لا تَخَفْ نَجَوْتَ مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ} [القصص: 25]، {وَفَتَنَّاكَ فُتُونًا} أي: ابتليناك ابتلاءً. على أن الفتون مصدر كالشكور، أو ضروبًا من الفتن على أنه جمع فتنة أي: فجعلنا لك فرَجًا ومخرَجًا منها. وهو إجمال لما سبق ذكره.{فَلَبِثْتَ سِنِينَ فِي أَهْلِ مَدْيَنَ} أي: معزز الجانب مكفيّ المؤونة في عشرة أتقى رجل منهم وأصلحهم، وهو نبيّهم عليه السلام: {ثُمَّ جِئْتَ عَلَى قَدَرٍ يَا مُوسَى} أي: بعد أن قضيت الأجل المضروب بينك وبين شعيب من الإجارة، جئت بأهلك على وفق ما سبق في قضائي وقدري؛ أن أكلمك وأستنبئك في وقت يعينه قد وقَّته لذلك. فما جئت إلا على ذلك القدر، غير مستقدم ولا مستأخر. فالأمر له تعالى. وهو المسيّر عباده وخلقه فيما يشاء.قال أبو السعود: وقوله تعالى: {يَا مُوسَى} تشريف له عليه الصلاة والسلام، وتنبيه على انتهاء الحكاية التي هي تفصيل المرة الأخرى التي وقعت قبل المرة المحكية أولًا. وقوله تعالى: {وَاصْطَنَعْتُكَ لِنَفْسِي} تذكير لقوله تعالى: {وَأَنَا اخْتَرْتُكَ} وتمهيد لإرساله عليه السلام إلى فرعون مؤيدًا بأخيه والاصطناع افتعال من الصنع بمعنى الصنيعة. يقال: اصطنع الأمير فلانًا لنفسه، أي: جعله محلًا لإكرامه باختيار وتقريبه منه، بجعله من خواص نفسه وندمائه، فاستعير استعارة تمثيلية من ذلك المعنى المشبه به إلى المشبه. وهو جعله نبيًّا مكرمًا كليمًا منعمًا عليه بجلائل النعم. قال أبو السعود: والعدول عن نون الواقعة في قوله تعالى: {وَفَتَنَّاكَ} ونظيريه السابقين، تمهيد لإفراد لفظ النفس اللائق بالمقام، فإنه أدخل في تحقيق معنى الاصطناع والاستخلاص. اهـ.
|